
ولكن ما الفرق؟
جهّز بكر نفسه ورتب حاله في انتظار مكالمة من صديقه الذي كان يتلهف لرؤيته بعد غياب طويل. فمنذ خمسة أعوام، غادر صديقه مصر بحثاً عن عمل في الخارج، ومنذ ذلك الحين لم يلتقيا وجهاً لوجه، لكنه كان يراه عبر مكالمات الڤيديو ويسمع صوته في الرسائل الصوتية، وأحياناً يتحدث معه عبر المكالمات الدولية.
جلس بكر في مقهى شعبي بالقرب من منزله يُسمى "كابوريا"، ينتظر وصول صديقه، و بعد قرابة الخمس دقائق، وصل محسن أخيراً لتلتقي الأيادي والأحضان والسلامات بلهفة. جلس كل منهما في انتظار القهوجي ليحضر مشروبهما الذي طلباه. وبعد عدة دقائق من الصمت، قال بكر:
"ما رأيك بالخارج يا عزيزي؟"
نظر محسن أمامه وكأنه تذكر شيئاً مهماً، ثم أخذ نفساً عميقاً من سيجارته وقال:
"إنه وضع مختلف يا عزيزي. هناك قانون لكل شيء ونظام لكل شيء. على سبيل المثال، لا نرمي حتى أعقاب السجائر على الأرض لأنها تُعد جريمة قانونية. أيضاً، لا يُسمح بالتدخين في الأماكن العامة، وهناك أماكن مخصصة لعبورنا، وأشياء أخرى من هذا القبيل لا أذكرها حالياً، ولكنني أتذكر أن الوضع هناك أفضل!"
ظهرت علامات السرور على وجه بكر ثم قال له:
"هل تعتقد يا صديقي أنه إذا التزم كل شاب هنا في بلدنا بتلك الأنظمة التي تُطبق في الخارج، لما احتاج هؤلاء جميعاً للسفر؟"
ظهر الامتعاض على وجه محسن قليلاً، ثم رمى عقب سيجارته على الأرض وقال:
"لا أعتقد يا صديقي، فالعقلية هنا تختلف!"
"كيف تختلف؟ والشخص نفسه هنا وهناك هو هو. بكر هو بكر، ومحسن هو محسن."
"لا، ليست الأمور هكذا. إذا وجدت من بجانبك يلقي القمامة في سلة المهملات، فستفعل مثله. ولكن إذا رأيت من يلقيها على الأرض، ستفعل مثله أيضاً."
ظهر على بكر علامات الدهشة ثم قال:
"ولماذا لا تصبح أنت يا صديقي أول من يرمي القمامة في السلة حتى يفعل الناس مثلك؟"
نظر إليه محسن بغضب وقال:
"لا يا صديقي، لن أصبح مختلفاً عنهم. إذا رمى الناس القمامة على الأرض، سأرمي مثلهم."
"ولكنك لا تفعل هذا في الخارج، فربما يحاسبك القانون!"
"ها أنت ذا قد ذكرت القانون، ولكن هنا يا عزيزي لا يوجد قانون يُجرم رمي أعقاب السجائر أو بعض القمامة في الشوارع."
"ولكن يوجد ضمير يا صديقي، ويوجد نظافة، وهناك الله سيُحاسبنا. لماذا يجب أن يكون هناك جلاد ليلزمنا بالالتزام؟"
صمت محسن ولم يجيب، وأخرج سيجارة أخرى من علبته، بينما تناول بكر كوبًا من الشاي. ظل الصمت يُخيّم على المكان حتى مرت من أمامهم سيارة نظيفة وحديثة، فأشار محسن إليها وقال:
"أريد أن يكون لدي سيارة فخمة مثل هذه، وقصر كبير، وزوجة أجنبية، وأطفال عيونهم زرقاء مثل أمهم. وأريد أن أصبح CEO في شركة ما. هذه هي معايير النجاح يا بكر، معايير يصعب على من هم مثلك، من يقولون 'قانون' و'قمامة' فهمها. ستظلون دائماً هكذا، تنظرون تحت أقدامكم."
ابتسم بكر ثم نظر إلى محسن وقال:
"يا أخي، ما تقوله هو بالفعل معايير النجاح، ولكنها معايير النجاح الأمريكية! وهي معايير لا تتفق معنا أو مع شريعتنا. النجاح هو أن تكون صالحاً مُصلحاً في حياتك فقط، وتضمن دخولك الجنة بأعمالك. أن تساعد من حولك وتتميز بالحكمة. ولكن للأسف، ما يصوره لك الشيطان هو الخطأ، لأنه يجعلك تشعر دائماً أن هناك شيئاً ناقصاً في حياتك، ويثير فيك فضولاً دائماً، كما فعل مع آدم عليه السلام عندما صور له الشجرة على أنها تحتوي على شيء ضروري لا يمكنه العيش بدونه. ولكن عندما لمسها، تأكد أنه قد خُدع."
نظر محسن إلى بكر بغضب وقال:
"هل أُصبح فقيراً حتى ترضى عني يا بكر؟ أم ماذا؟"
تجاوز بكر كلامه وقال:
"ليس الأمر هكذا يا صديقي، رضاي عنك لن يُزيدك أو يُنقصك، فأنا بشر مثلك. ولكن رضا الله هو الغاية والأهم. وأيضاً لا أريدك أن تصبح فقيراً، بل ابحث عن الثراء؛ فليس العيب في ذلك. فالرسول صلى الله عليه وسلم كان يستعيذ من الفقر. ولكنني أحذرك من الطموح الجامح لأنه قد يؤذي أي شخص في طريقك دون أن تشعر."
وبخبث قال محسن لبكر:
"وماذا فعلت أنت بحياتك حتى تقول لي هذا؟"
لم يغضب بكر، بل تجاوب مع كلامه وقال:
"ربما لم أسافر مثلك، وربما لم أحظَ بالمال مثلك، وربما لم أحصل على علم مثلك، ولكنني أُعُطيت نعم كثيرة أخرى لو عدّدتُها لما استطعت حصرها. فكل واحد منا له طريق مختلف وحياة مختلفة وهدف مختلف. وأنت تسألني ماذا فعلت في حياتي؟ سأقول لك نبذة بسيطة: ساعدت في تعليم سيدة من محو الأمية، والآن تستطيع أن تقرأ وتكتُب، وهذا ساعدها كثيراً في فهم وتدبر القرآن الكريم. هل يوجد أعظم من هذا؟"
لم يجد محسن مفرّاً فقال:
"أنت كما أنت يا صديقي، لن تصل أبداً إلى القمة!"
وعاد كل منهما إلى هدوئه وصمته مرة أخرى.