Cover Image for تاريخ
2

تاريخ

بداخل غرفة صغيرة تتسع لشخص أو شخصين، لكن قد كُتب عليها أن يسكنها شخص واحد طوال العمر. وفي شقة صغيرة كانت تتسع لعائلة مكونة من خمسة أفراد، لكن قد كُتب عليها أن يسكنها شخص واحد فقط. بداخل عقل رجل كان من المفترض أن يسكنه أحلام وآمال وطموحات، ولكن سكنه فقط الماضي، مما جعل أحلامه وآماله وكأنها لم تُكتب ولم يُسمع عنها في الوجود من قبل!

رن جرس المنبه على الكمود بجانب سريره ليعلن عن الساعة السابعة صباحًا، ليجد المنبه يداً ضخمة تضغط عليه، مُحجمة صوته قبل أن ينطق بكلماته كاملة. يد دهنية ضخمة متصلة بجسد ضخم مُستلقي على السرير، عيونه حمراء من قلة النوم أو من عدمه. زفر الجسد المُلقى على السرير ثم اتكأ على الفراش، ونظر إلى المنبه وقال:

"أنت النائم يا أحمق، وليس أنا!"

ابتسم ابتسامة صفراء، ثم نهض من على السرير ليظهر رجل أصلع الرأس، أنفه نحيف، وشاربه الخفيف يزين وجهه ليزيده غرابة، مع عينيه الحمراوين، وجسده الضخم الذي تخطى المائة كيلوجرام، وله بطن متدلي أمامه لكنه كان يخفيه تحت سترة نوم طويلة لا يرتدي بنطالها، اكتفى فقط بلباسه الداخلي. تحرك خطوتين، ليجد قدمه تغرس بداخل علبة كبيرة على شكل مستطيل كُتب عليها من الخارج "بيتزا الحريف". نزل بجسده الضخم والتقطها، ثم وقف يتنفس بصعوبة، وصوت صفير أنفاسه يعلو تارة وينخفض تارة. فتح العلبة لتظهر له شريحة على شكل مثلث، من بيتزا الموزاريلا التي يحبها، لتأخذ قطعة البيتزا القطار وتذهب إلى المحطة المحددة لها، وهي معدة الرجل الضخم.

بعد أن انتهى من تناولها، أخذ ينظر في المرآة أمامه ويضحك، اقترب منها وحرك فمه وأنفه كأنه يداعب طفلًا صغيرًا، فتح عينيه وأغلقها، وحرك أنفه وفكه وهو يضحك. ثم قام بتحريك زاوية وقفته ليقف موازيًا للمرآة، وأمسك ببطنه المتدلي وحركه وهو يردد:

"ما كل هذا العز؟"

انتهى من فقرته الكرتونية، ثم حاول الخروج من الغرفة محاولًا تجاوز القاذورات الملقاة على الأرض من علب فارغة، وصفائح. حتى وصل إلى مفتاح الإضاءة، ليرتفع الضوء في الغرفة المُظلِمة مُغلَقة النوافذ، حالها كحال الشقة بأكملها. خرج من غرفته بعد أن تخطى القاذورات التي كانت تصيح وتصرخ، وتستنجد من عربة النقل التي تضغط عليها، لتجعلها نحيلة خلافًا لطبيعتها.

وقف في غرفة الصالون وهو ينظر أمامه بكل غضب ممزوج بالحزن، ثم تحرك كما لو كان ذاهب لضرب شخص ما يقف أمامه. سرع من خطواته إلى أن وصل إلى الحائط المقابل له، المُعلق عليه نتيجة الحائط، ليظهر أمامه ورقة مستطيلة مكتوب عليها أرقام وتاريخ اليوم، وهو الخامس من أكتوبر لعام ٢٠٢٤. وتحتها كُتب "حكمة اليوم":

"لا تتعلق بالماضي، وابدأ بصنع مستقبل أفضل."

وضع يده على الجملة، ثم أخذ يمرر يده فوقها وهو يضحك ضحكًا هيستيريًا، قائلاً:

"كيف لي أن أصنع مستقبلًا أفضل أيها الأحمق؟ لقد مِت قبل عشرين عامًا وما زلت ميتًا حتى الآن! كيف سأصنع مستقبلًا وأنا لست في الدنيا؟ ولمَ تأتي كل عام وتذكرني بهذا التاريخ أيها الأحمق؟ لم لا يُمحى الخامس من أكتوبر من الأعوام؟ صدقني لن يحدث شيء، بل سنتحسن، أو سأتحسن أنا!"

وضع يده على عينه، وأخذ يبكي كطفل صغير، وهو يتجه إلى المرحاض؛ ليجهز نفسه ويذهب إلى عمله.

وصل إلى مكان عمله الذي يكرهه، ليجد زملاءه في العمل الذين يكرههم أيضًا، ويجد مكتبه مُغطى بالأوراق التي يكرهها أكثر من زملائه. وكعادته، ألقى التحية دون أن يهتم بالرد، ثم ذهب ليجلس على مكتبه. حين لمست مؤخرته كرسي المكتب، انقطع التيار الكهربائي عن المكان كله! فنظرت له "أم نسمة" بعين خبيثة وقالت بجملة شعبية:

"يا قاعدين، يكفيكم شر الجايين!"

نظر إليها وقال بأنفاس ثقيلة، وصوت صفيره الذي يتصاعد معه:

"أتعلمين يا أم نسمة أنك حمقاء؟ لا تهاجمي من يقطع الكهرباء، ولكن تهاجميني أنا؛ لأن بمجرد أن لمست مؤخرتي كرسي المكتب انقطع التيار، كأنني جلست على شركة الكهرباء كلها. بعض الناس، حينما لا يقدرون على مجابهة الذئب، يثرثرون على الغزالة."

ضحكت "أم نسمة" ضحكة مائعة، وقالت:

"وهل يوجد غزالة بهذا الحجم يا عزيزي؟ بل قل فيل أو ماموث حتى اقتنع!"

وأخذت تضحك هي والرجل الآخر الصامت الذي يجلس معهم في الغرفة. لم ولن يجد فائدة من مجادلتها، فوضع يده على رأسه وأغمض عينيه، وبصوت خفيض قال:

"إنك حمقاء، أنا لا أكذب."

وكعادة كل يوم، خرج الرجل الآخر ليدخن بالخارج، بينما جلست "أم نسمة" تنم و تتحدث عبر هاتفها مع صديقتها عن خلق الله كلهم، منتظرة رجوع التيار الكهربائي؛ لتقوم لتصلي صلاة العصر.

نظر إلى الحائط بجانبه، وخاصة إلى الساعة المُعلقة التي تشير عقاربها إلى الساعة الثالثة وخمس دقائق، ومعها صوتها المعتاد (التك تك تك) كلما تحرك عقرب الثواني. لم يجد فائدة من الجلوس وحده، فقرر أن يترك العالم من حوله.

فتح زر قميصه العلوي الذي كاد أن يخنقه، أخرج قميصه من بنطاله، وفك حزام بنطاله قليلاً ليشعر بالراحة، قام بخلع حذاءه، ووضع يديه على المكتب، وحشر رأسه بين يديه، ثم أغلق عينيه، وفصل كل حواسه عدا أذنه التي ظلت تسمع صوت (التك تك تك) إلى أن غفى ونام.

شعر بيد تهز جسده بكل سهولة، وهي تردد:

"يا بني، هلم، فسوف نتأخر! أسرع!"

لم يرفع رأسه من على المكتب وقال:

"لا يمكنني العمل طالما ليس هناك ضوء في المكان."

فجأة، جاء الصوت مرة أخرى وهو يقول:

"عمل ماذا يا بني؟ نحن في إجازة اليوم، سنخرج معًا."

رفع رأسه من على مكتبه ليتفاجأ بالغرفة التي هو فيها. تغير كل شيء من حوله، ليجد نفسه في غرفة، داخل منزل مرتب، ذو حوائط ملونة، ومكتب ملون. نظر إلى نفسه فوجد جسده نحيلاً، وضع يده على رأسه، فشعر بشعر ناعم بين أصابعه، فأخذ يضحك. نظر بجانبه فوجد أمه، فقال لها:

"كيف عدتِ؟ أي عام هذا؟"

نظرت له أمه بدلال وقالت:

"قلت لك ألا تسهر كثيرًا، فهذا يؤثر بالسلب على من هم في سنك."

لم يمهلها وقتًا، فقام و احتضنها سريعًا. لم تفهم أمه شيئًا، لكنها ربتت على ظهره وقالت:

"كل شيء سيصبح أفضل، لا تقلق."

ثم سمع صوت خطوات أقدام خافتة، تأتي من خارج الغرفة، لتظهر بعدها أخته الصغرى أمامه. ترك أمه سريعًا وركض ليحتضنها، قائلاً:

"يارا، أنا أحبك كثيرًا."

فحضنته هي الأخرى، وهي تردد:

"كل شيء سيصبح أفضل، لا تقلق."

قاطعتهم أمهما وقالت:

"هيا بنا سريعًا، فوالدكم ينتظركم منذ وقت طويل. هيا قبل أن يلغي الرحلة."

نطق قائلاً بتعجب ممزوج بالفرح:

"والدي؟"

فضحكت أمه وهي تجذبه من يده وتقول:

"والدك، نعم، ألا تعرفه؟"

ذهبوا جميعًا وخرجوا من المنزل، ليجدوا سيارة تقف أمامهم، وفيها رجل يبدو عليه الغضب. حين لمحهم، رفع يده وأشار إلى ساعة يده قائلاً:

"ما بكم يا قوم؟ لما تجعلوني أغضب دائمًا؟"

ثم أدار المحرك، وركبوا السيارة جميعًا وانطلقوا.

كان يجلس على المقعد الخلفي، بجانب أخته الصغيرة وهي تضحك، بينما الهواء يداعب وجهها وشعرها من نافذة السيارة. والدته تجلس في الأمام، تقرأ القرآن ودعاء السفر. أما والده، فكان يرتدي نظارة شمسية وقميصًا أزرق فاتحًا جعل ملامحه تبدو أصغر بعشرين عامًا. تلاقت عيونه مع عينيي والده في مرآة السيارة الجانبية، فابتسم له والده وقال:

"كل شيء سيصبح أفضل، لا تقلق."

كان الفرح باديًا على وجهه، فما الذي سيحزنه وهو وسط عائلته الآن؟ فبدأ يسأل نفسه:

"ما قيمة المرء دون عائلة؟ وكيف يعيش من ليس له عائلة؟"

لكن القدر لم يمهله وقتًا للإجابة على سؤاله. فوالده لم يضع في حسبانه أن في تقاطع الطريق القادم، كان هناك رجل يقود سيارة نقل كبيرة، لا يهتم بالطريق ولا يراه. كان كل همه في لف ورقة تبغ كان يدخنها، فأعطاها كل حواسه وترك الطريق ودواسة البنزين، وقدمه تضغط عليها دون أن يشعر باقترابه من التقاطع. لم يلحظ أحد من العائلة السعيدة في السيارة اقتراب خط النهاية. ليس فقط لوجهتهم، بل لخط نهايتهم هم. وبعد أقل من دقيقة، وقع الاصطدام، ليغير كل شيء، وتعود الصورة إلى السواد مرة أخرى.

هب من على مكتبه كالمفجوع وهو يصرخ ويكرر:

"لا! لا! لا! لا! لا! لا يمكن أن يحدث! لا! لا أريد أن أعود، أريد أن أمنعهم!"

نظر حوله وسط ذهول من زملائه في المكتب مما يفعله، لكنهم لم يعيروه انتباه لأكثر من دقيقة، وعادوا لما كانوا يفعلونه. وضع يده على رأسه، فوجدها امتلأت عرقًا، نظر إلى قميصه فوجده امتلأ بالعرق أيضًا، وتناثرت بقع من العرق الذي على وجهه إلى الورق الذي أمامه فبللته. نظر إلى ساعة الحائط التي كانت تشير إلى الرابعة ودقيقة، ثم وضع يده على وجهه وقال:

"يا ليتني أستطيع محو ذاكرتي للأبد."

قم بإضافة تقييم

التعليقات