
سرير بروكرست
"لم تكن الحياة عادلة قط."
قرأ يوسف هذه الجملة ذات يوم، ولم يُدرك معناها إلا حين أصابته مُصيبته. لم تكن مصيبته هينة، بل كانت بالنسبة له ضياع كل ما كان يحلم به؛ حيث أصبح مُلزماً بالكرسي المتحرك لبقية حياته بسبب حادث سيارة أصاب عموده الفقري. وعلى الرغم من ذلك، لم يكن يرى في حاله صعوبة كبيرة؛ لأن صديقه سامح قد لازمه أكثر من أي وقت مضى، فقضيا معاً معظم أوقاتهما في الخروجات والسهر والمقاهي، إلى درجة أنه كاد ينسى أن قدميه لم تعد تعمل، طالما كان سامح بجانبه. كان يوسف يعتبر أن روحه تسكن جسد صديقه، فلم يكن يلحظ أبداً عيوب جسده.
ذات يوم، كان يوسف يجلس على كرسيه المتحرك في شرفة منزله، ينتظر مجيء سامح ليخبره بالخبر السار، حيث وصلته رسالة من أطباء في الخارج، يخبرونه فيها أنهم قادرون على علاج عموده الفقري. فرح يوسف كثيراً بعدما كاد ييأس، وكان حريصاً على أن يكون أول من يشاركه هذا الخبر هو صديقه.
لكن عندما وصل سامح إلى منزل صديقه، لاحظ يوسف الحزن على وجهه والضيق، فانتظر حتى يعرف سبب حزنه قبل أن يخبره بفحوى الرسالة. حاول يوسف جاهداً أن ينتزع الكلمات من سامح، ومعرفة سبب حزنه، حتى نجح أخيرًا. أخبره سامح أنه يحب فتاة، لكنه لا يستطيع التقدم لها بشكل رسمي؛ بسبب سوء حاله المادي. حينها فاجأه يوسف قائلاً:
"وكيف تعلم أنها تُحبكَ؟"
تردد سامح قليلاً، ثم قال:
"إنها دائماً ما تجلس معي في الجامعة، نذاكر سوياً، نسهر معًا؛ لنتناقش في مسائل الجامعة، ونحضر محاضراتنا معًا."
نظر يوسف إلى صديقه، ثم قال له بنبرة حادة:
"اتركها يا صديقي، فهي لا تُحبكَ من الأساس."
غضب سامح وقال:
"لماذا تقول هذا؟"
أجاب يوسف وهو ينظر بعيداً:
"إنها تستغلك، وأنت لا تلاحظ ذلك!"
ازداد الغضب على سامح، واقترب من يوسف وهو يقول:
"كيف لمن هو مثلك أن يقول هذا؟ أو كيف تعرف حتى؟"
نظر له يوسف بوجه صارم، مُتصنعًا عدم الفهم، وقال:
"لا أفهمُكَ يا صديقي، ماذا تريد أن تقول؟"
وضع سامح يده على فمه، وهو يقول بصوت خفيض:
"لا شيء، لا أُريد أن أقول أي شيء."
تابع يوسف بوجهه الصارم:
"لا تكن كالطفل الصغير هكذا، كل من يُخبرك بكلمة حسنة أو يشتري لك حلوى تظن أنه يحبك، هذا ليس حباً، إنه..."
قاطعه سامح، وبكل غضب صرخ به وقال:
"وكيف ستعرف أنت معنى الحب؟! كيف لقعيد مثلك أن يُحب من الأساس؟! أنت تقول هذا فقط؛ لأنك تُريدَني أن أبقى معك لخدمتك، ولأنك لا تُريدَني أن أبتعد عنك، ولكن كفى! لدي حياتي الخاصة ويجب أن أعيشها."
حينما انتهى سامح من كلامه، كانت ملامح الصدمة باديةً على وجهه من ثقل الكلمات التي نطق بها. حاول أن يقول شيئًا يُلطّف به الأجواء، ولكنه لم يجد ما يقوله من كلمات تُطفئ الشعلة التي أشعلها؛ لذا قرر أن ينسحب بهدوء، بينما ظل يوسف ناظرًا أمامه بوجهٍ جامد لا يظهر عليه أي مشاعر.
وعندما سمع يوسف باب شقته يُغلق، هبطت دمعة من عينه، ورمى الرسالة من يده، ونظر إلى السماء، وبدأ في البكاء.
وبعد هذا الحادث بعام، كان يوسف يجلس على كرسيه المتحرك في شُرفته، يتأمل الناس الذين يمشون في الشارع، شارد الذهن، يفكر في قراره بعدم السفر لإجراء العملية. كل يوم كان يعيد التفكير في قراره، ويقول لنفسه:
"لقد منحني صديقي الأمل في الحياة مرة أخرى، وكان يجب أن أعيش هذا الأمل، ولكن حين واجهني بالقسوة، تسرب هذا الأمل مني، وأصبحت أحب جلوسي كما أنا منتظرًا لنهايتي المحتومة. فلماذا أُكابر؟"
ظل يفكر تارة، ويحزن على حاله تارة أخرى، حتى سمع صوت باب شقته يُفتح. لم يلتفت خلفه، بل كان يأمل أن يكون ملك الموت قد جاء ليقبض روحه. لكنه تفاجأ حين لمح بطرف عينه أن من دخل وجلس على الكرسي بجانبه هو صديقه سامح، وقد تغيرت هيئته قليلاً. استمر الصمت للحظات بينهما، حتى قطعه سامح وقال:
"أنا آسف يا صديقي، يا ليتني صدقتُكَ!"
صمت يوسف للحظة، ثم بصوت مكسور قال:
"ما الذي حدث؟"
قال سامح بحزن وحُرقة:
"لقد قالت لي: إنني لست من نوع الرجال الذين تحبهم، وأنها تريد شيئاً آخر لا يتوفر في."
ثم ضحك سامح، وهو يضع كلتا يديه على رأسه، ناظرًا إلى الأرض بحسرة. ليقول له يوسف بوجه جامد خالٍ من المشاعر:
"أتعرف قصة سرير بروكرست؟"
تردد سامح في الإجابة، ثم قال:
"لا، لم أسمع بها."
تابع يوسف قائلاً:
"هي أسطورة يونانية عن حداد كان يدعو الناس للمبيت عنده، ثم يضعهم على سرير في بيته. من كان طوله أكثر من مقاس السرير، بتر الزائد منه، ومن كان أقصر، مد أطرافه حتى تتمزق. الشخص الوحيد الذي ينجو هو الذي يُناسب جسده السرير تماماً. وهذه ليست مجرد أسطورة، بل واقع نعيشه كل يوم. لدينا جميعاً سرير بروكرست في أذهاننا، لأننا لا نقبل الناس كما هم، بل نريد أن نضعهم في قالب من صُنعنا، ونتخلص مما لا يتناسب مع هذا القالب. ولهذا، لم تقبل بك الفتاة؛ لأنها أرادت أن تضعك في صورة معينة، ولم تجد صورتك كما تُريد هي."
نظر له سامح بعينين يحتشد بهما الدمع، وهو يقول:
"أرجو أن تُسامحني يا صديقي، أنا آسف!"
نظر له يوسف بعينين مليئتين بالحزن، وقال:
"وبماذا يُفيد الأسف الآن؟"