
مُغيب
(لقد باع فريقه مقابل ملايين، إنه عديم الإنتماء، ليست كل الأشياء بالأموال يا هذا، حب الفريق أهم من كل شيء بالكون.....
توقف عن الكتابة على اللوح الإلكتروني، حينما انتشله من تركيزه رنين هاتفه. نظر إلى شاشة هاتفه ليجد اسم صديقه (عبده تشجيع) يتصل به.
زفر الهواء من فمه، أخذ يلتفت حوله ليبحث عن دواء الضغط الخاص به وزجاجة المياه، وبالتزامن يحاول بكل سرعة أن يُجيب على الهاتف، قبل أن تنتهي رنة المكالمة؛ فنحن فى آخر الشهر، وهو لا يمتلك رصيدٍ كافيٍ لمعاودة الاتصال!
ضغط على زر قبول المكالمة وهو يقول بصوتًا عال:
"فعتلهااااااااا"
ليجد الدهشة من صديقه على الجانب الآخر، ليقول له:
"ماذا فعلت؟... لا يهمني أنت مجنون دوماً فى أيام المبارايات. أسرع لقد حجزت لك كرسيًا بجانبي، أسرع قبل أن يأتي أحد ويأخذه."
أغلق الهاتف سريعاً، وانهى كتابة المنشور على صفحته، وختمه ب( لقد باعنا، وحينما نفوز بالبطولة سوف يأتي باكيًا وزاحفًا.)
و انطلق سريعاً إلى المقهى.
لما وصل إلى هناك، وجد كرسيه الذى أدخره له صديقه فابتسم تلقائياً، ولكن قبل أن يجلس ويأخذ دورته من الشهيق والزفير، وجد أمامه رجل ضخم البنية، قوي الجسد، يقول له:
"ماذا أُحضر لكم يا حضرات؟"
نظر هو وصديقه إلى بعضهم البعض، وبصوتٍ واحد قالوا:
"شاي نعناع"
نظر لهم الرجل نظرة ممزوجة بالغضب والخيبة، ثم قال:
"إنه وقت مباريات نريد أن نسترزق..."
ولكن قبل أن يُكمل حديثه قال بطلنا:
"إنه آخر الشهر، أنت تدري أن المرتب لا يتحمل حتى ولو لنصف الشهر. ومن ثم ختمها ب( طول بالك علينا شوية بقا)."
رحل الرجل غاضباً، فلقد خاب أمله فى عصير الساقع، أو لو حتى كيس من الاندومى. ولكن سرعان ما عادت ابتسامته حينما سمع جملة( أريد كوبا من المانجا) من الطاولة التى خلفهم!
لم يهتم بطلنا ولا صديقه عبده تشجيع بهذا الكلام، ولا بنظرة القهوجي التي تختلسهم كلما مر من أمامهم ب العصائر والميلك تشيك، إنه حتى لم يُحضر لهم مشروبهم، فلقد نساه وسط زحمة العصائر أم يا ترى قد استنساه ؟
وفى النهاية لقد حضرَ كوبان من الشاي الساخن سيء الطعم والنكهة والرائحة، ولكن لا يهم ،كل ما يهم هو الحدث الذى بعد أقل من ربع ساعة، وهى المباراة!
بدأت المباراة، كالعادة مثل باقي المباريات، مملة فى البداية، ومن ثم تصبح مملة أكثر وأكثر، هذا طبيعي يا عزيزي فأنت فى دوري أبطال افريقيا! كانت الأجواء هادئة، تعلوا الصيحات كلما كانت الهجمة لصالح فريق بطلنا، ومن ثم تنتهي الصيحات بسب للاعبين، أو ببعض الأصوات القذرة. وهناك هذا الرجل الكبير فى السن، الذي يسبُ لشاب، يلعب بداخل الشاشة، لتقابله الناس ب:
"متقلقش يا حج هيجيب جون دلوقت!"
ثم تنقلب الهجمة على فريق بطلنا، ليعلوا الصياح والتصفيق حينما تخرج الكورة أو تُصد، لتجد من كان يشتم اللاعب الذى أضاع الكرة منذ قليل، يعود الآن ويصفه ب عبارات من( أنت الأفضل، أنت كلمة السر)!
وفي جو من النفاق، ومع اقتراب نهاية المباراة، ومتبقي من الزمن قرابة النصف ساعة، يعلو صوت الحق والعدل في مكبر الصوت ليقول:
( الله واكبر الله واكبر...)
لتجد القهوجي يخرج سريعاً ليكتم الصوت. لا يهم الدخان، لا يهم السباب والشتائم، لا يهم ترك الصلاة، لكن يجب أن يُغلق الصوت احتراماً للاذان، أتريد الناس أن تقول عليه ليس له ملة؟
لم ينتبه بطلنا لصوت الاذان من الأساس، كل ما كان يهمه فى هذه الأثناء أن يُحرز فريقه الهدف؛ ليرفع اللافتة التي كُتب عليها( عشق الكيان، بطولات لا تُشترى بالأموال).
لذا هب سريعًا من مجلسه، ليقول:
" لماذا أطفئت الصوت يا رجل؟"
ليواجهه القهوجي والناس بالمكان:
" اذان العشاء!" "ششششششش!" "اجلس نريد أن نرى الشاشة!"
جلس على كرسيه مرة آخرى وهو كاظم لغيظه، يحاول أن يُسيطر على نفسه، إنه الاذان فكيف له أن يغضب؟ لم تظهر عليه علامات الغضب، ولكن بداخله يوجد حفلة شواء، حاول أن يحتويها. إلى أن مرت خمس دقائق، وعاد الصوت مرة آخرى، ومعه جاء هدف فريقه، وارتفعت اللافتة المُجهزة خصيصا ليست للإحتفال بفريقه! ولكن للتنكيل بلاعب آخر قد تركهم.
انتهت المباراة و انتهت مراسم التكريم، لتبدأ الاحتفالات، ولكن صديقنا توجه إلى بيته ليبدأ احتفالاته الخاصة الملخصة في: ( منشورات الفيسبوك).
في اليوم التالي، كان بطلنا يقف أمام مكان عمله، فى زيه الأزرق، وحذائه الأسود، وربطة عنقه السوداء أيضاً، وبجانبه عصا الحراسة الخاصة به؛ فهو يعمل ك حارس أمن فى مول تجاري. كان الوضع هادئاً تمام إلى أن مرت من أمامه سيارة، وكانت تحمل بداخلها الرجل الذى شُتم البارحة أكثر مما ذُكر اسمه، ولكنه لم يكن كما تخيل بطلنا بتاتا، لقد كان بجانبه زوجته وابنته وهم يبتسمون ويضحكون، وحينما رفع عينه على السيارة قد وجدها من أحدث الصيحات لهذه السنة، حتى ملابس اللاعب لم تكن مثل ملابسهم العادية، كانت من ماركة البراند، أشياء لا يحلمُ بها شاب من الطبقة المتوسطة ولا حتى الفقيرة.
وقف لحظة ونظر لهم، ومن ثم لف بجسده ليواجه الزجاج العاكس الخاص ب المول؛ لينظر لهيئته ويستعجب من نفسه. وأخذ يسأل نفسه:
ما هذا الوجه الشاحب؟ ما هذا الجيب الفارغ؟ ماهذا الرأس الخاوى؟ ماهذا الجسد النحيف؟ ما هذه الهالات السوداء التي تحت عينيه ؟ كل هذا وهو لم يتخطى الثلاثين؟ كل هذا وهو أصغر من هذا اللاعب الذى كان بالسيارة؟
أدرك أنه لن يركب سيارة مثل هذه فى حياته كلها، أدرك انه لن يتزوج يوما ليصبح مثله، أدرك أنه لن يرتدي مثله فى يوم من الأيام، أدرك أن مرتبه الذي لا يتعدى ال 2000 جنيه لا يقدر حتى على توفير حاجاته وحاجات والدته بعد وفاة والده، أدرك أن هيئته وقلة نومه كانت بأهداف فاشلة، أدرك أن الشمس الحارقة التي يقف ليعمل تحتها شاهدة على معاناته، أدرك أن الكيان هى كلمة فاسدة للضحك على الشباب، أدرك أنه قد أضاع عمره فيما لا يفيد، أدرك أن هروبه من المدرسة لمشاهدة مباريات فريقه كلها بدون فائدة، أدرك فى النهاية انه مُغيب.
نظر أمامه وقال:
"سعيد يا لك من أحمق اضعت عمرك على لا شيء."