Cover Image for لا ندري

لا ندري

قُبيل الفجر بقليل جلس على كرسيه في شرفته، يقبض بيديه على كوب ساخن من الشاي، يحاول أن يحاوطه بشتى الطرق حتى يستمتع بدفئه في هذا البرد القارس، لا يدري لما لازمه الأرق في هذه الليلة تحديداً، فلقد تخلص من الأرق منذ أن كان مراهقاً، ولم يزوره هذا الزائر ذو الدم الثقيل من مدة طويلة، ولكنه كان يعتقد أن السبب في هذا الموضوع هو مِن المنشورات التي شاهدها على وسائل التواصل الاجتماعي؛ فمنذ خمس ساعات تقريباً، شاهد أشخاص يكتبون مقالات وقصص عن شخصيات تاريخية، ويتهمونهم بالسوء، ويقولون عليهم كلام ضعيف ليس له أساس من الصحة، لمجرد أن شخصًا ساذجًا تكلم عنهم بالسوء، وبالتالي فعل مثله اتباعه، وبعدها بأقل من نصف ساعة، وجد أشخاص يمدحون في نفس الشخصيات التي كان أناس آخرون يسبونها؛ لأن أحدهم شكر فيهم، ففعل مثله أتباعه. بالنسبة له هذا كان غير عادل؛ فإذا وقع منشور عن سوء شخصًا ما، وأنت لا تعلم عنه شيء أبدا، فإنك ستقول عنه نفس ما هو بالمنشور، فجاء بباله فكرة، كم من أشخاص لوثهم التاريخ، لمجرد أن البعض تناقلوا كُتب ومقالات عبر الأزمنة ظلمتهم!

قد يكون هذا بالأمر الهين على أي شخص، ولكنه ليس بالهين على أستاذ الفلسفة وعلم النفس البروفيسور علي محمد. قد يكون موضوع ساذج، لن يُركز أي شخص آخر عليه، أو يعطيه قدر ولو بسيط من الاهتمام، ولكن بالنسبة للبروفيسور كان بمثابة مشكلة كبيرة، تجعله لا ينام من التفكير في التاريخ وكُتابه!

أثناء جلوسه وتفكيره المستمر، سمع صوت في الشارع أسفل الشرفة، فقام من على كرسيه سريعاً، وهو يحيط بيديه على الكوب الساخن وينظر إلى الطريق، وإذ به يجد رجلان يتشاجران، وسرعان ما انتهت المشاجرة؛ بعد تدخل الناس والفض بينهم. حينما ازدادت الحركة في الشارع، سئم البروفيسور من جلوسه في الشرفة، وقرر الدخول لغرفته، والاستمتاع بِسَهره وحده.

بعد مرور ساعات قليلة، في الصباح الباكر، خرج من منزله كعادته يرتدي بدلته البُنية، وحول رقبته يضع السكارف الأسود، وفوق رأسه قبعة ڤيدورا التاريخية المشهورة، وبيده يمسك بحقيبة جلدية يضع بها مذكراته وورقه. شكله وهيئته لا يتناسب تماماً مع الزمن الذي يعيش به، ولكن شخصيته فرضت عليه هذا!

وأثناء سيره بالشارع، بعد خطوات قليلة من منزله، استوقفه رجل ليقول له:

"هل سمعت بما حدث منذ ساعات يا أستاذ علي؟"

لم يجبه، فتابع الرجل:

"يقولون أنه حدثت مشاجرة كبيرة منذ ساعات، وأحد المتشاجرين صفع الآخر على وجهه"

لم يفهم الأستاذ علي ما دخله بهذا، ولكنه وقف في ملل يستمع لما يُقال حتى انتهى الرجل، وتابع الأستاذ علي سيره مرة أخرى. وبعد أقل من عشرة دقائق، وجد رجل آخر، على أول شارعه، ليقول له نفس ما قاله الرجل السابق ولكن بإضافة:

"يقولون أنه حدثت مشاجرة كبيرة، وأحد المتشاجرين ضرب الآخر بسكين في كتفه"

وبعدها قابل رجل آخر وقال له:

"لقد حدثت مشاجرة، ويقولون أن سببها هو ثأر قديم بين الشخصين"

وظل يسمع حكايات مختلفة، من كل شخص يقابله في الشارع، إلى أن خرج من الشارع كلياً. أخذ يفكر وحده، ويستعيد سبب ارقه وعدم نومه، ويشابه بين الموقفين: ما يتعرض له الآن، وما رآه على مواقع التواصل الاجتماعي، وفي النهاية توصل إلى:

"إذا حدثت مشاجرة منذ ساعات، وكل شخص تقابله يحكي لك قصة مختلفة عنها وكأنه كان حاضراً فيها، فما ستكون كلماتهم عن هذه المشاجرة في الغد ؟وبعد غد؟ والسنة القادمة، أعتقد أنه سيكون لدينا ألف قصة مختلفة وهذا ما يحدث بالظبط في نقل الأحداث التاريخية! وللأسف يُصدقها الناس"

حينما وصل إلى مكان عمله، وهو مدرج كلية الآداب قسم الفلسفة، وقف أمام طلابه بفخر، كمن توصل لحل مُعضلة مهمة، وهي القضية التي شغلته وجعلته في آرق. ابتسم لهم، ثم استدار وأخرج قلمه وكتب على سبورة بيضاء أمامه (ثانوس)، ثم التفت لهم وقال:

"أنا أعلم أنكم تعلمون من هو ثانوس، فلذا أريد منكم أن تخبروني ما رأيكم فيه وبفِكره؟"

فقال أحد الطلاب:

"لقد أراد أن يُهلك نصف العالم، وهو عمل شراني لا جدال فيه"

بينما قال آخر:

"لقد أراد أن يُهلك نصف العالم؛ لكي يعيش النصف الآخر، وهذا ليس عمل شراني، بل إنه يعلم أن الموارد قليلة، ويجب التضحية"

صفق البروفيسور علي للطالبين وهو ويقول:

"احسنتم، وهذا هو موضوع درس اليوم، وهو نقل الأحداث التاريخية. هل تعلموا لو دونا جملة زميلكم الأولى، وتناقلتها الأجيال القادمة، فبعد مئة عام سيصبح ثانوس شرير رقم واحد على كوكب الأرض، ولو دونا جملة زميلكم الثاني، وتناقلتها الأجيال القادمة، سيصبح ثانوس بعد مئة عام من المحافظين على الارض واستقراها ومواردها، وهنا سيصبح بطل وليس إلا"

سكت حينما لاحظ اندهاش الطلبة وتركيزهم ثم تابع وقال:

"الشخص جيد أم سيء، إنها تعتمد على من يكتب ويدون القصة، ويضع الأدلة أيا كانت صحيحة أم كاذبة يا أعزائي!"

قم بإضافة تقييم

التعليقات