
حياة مُستمرة
في يومٍ كعادةِ كل يومٍ، لا يخلو من المشاكل العائلية. لم يكن هناك شيءٌ مختلف؛ أبي يصيح لأتفه الأسباب، وأمي تستشيط غضبًا كلما حدثها أحدٌ عن موضوع لا تفهمه أو لا تستوعبه جيدًا، وأخي الصغير يجلس في غرفته وحده في عزلته، لا يفعل شيئًا. ولكنني وحدي كنتُ مختلفًا في هذا اليوم، فقد كانت الليلةُ أولَ ليلةٍ من شهر رمضان الكريم، لذا قررتُ أن أستمتع بها وحدي بعيدًا عن البيت ومشاكله.
كنتُ جالسًا في مقهى صغيرٍ عند زاوية الشارع، أحتسي قهوتي بينما تراقب عيناي المارّة. بعضهم يضحك، بعضهم يسرع للحاق بشيءٍ مجهول، وبعضهم يسير ببطءٍ وكأن العالم لا يعنيه. هناك أطفالٌ يَعدُون بمرح، وأطفالٌ آخرون تبدو عليهم ملامح البؤس، يقفون بعيدًا يراقبون بعيونٍ حزينة مرح غيرهم من الأطفال، ويندبون حظهم على ظلم الحياة.
كنتُ غارقًا في أفكاري، حتى دوّى صوتٌ ارتطام قوي، كأن الأرض اهتزّت للحظة.
التفتُّ بسرعة، ورأيتُ الناس يتوقفون دفعةً واحدة. السياراتُ توقفت، الضجيج انخفض، وكل من كان في الشارع التفت ناحية صوت الارتطام، وكأن العالم كتم أنفاسه لثوانٍ. هناك، على الجانب الآخر من الشارع، كان المشهد واضحًا: جسدٌ مُلقى على الإسفلت، وحشد بدأ يتجمع حوله.
ظللتُ مكاني للحظات، لا أتحرك، أنظر فقط بعينٍ خاوية ويدٍ مرتعشة ناحية الجسد المُلقى على بُعد أمتارٍ مني. ثم وجدتُ علي القهوجي يقف خارج المقهى ويقول:
"لا حول ولا قوة إلا بالله، لقد كان رجلًا محظوظًا في حياته ومماته، عاش سعيدًا ومات في رمضان."
ثم دخل ليُحضر باقي الطلبات. بعد أن أنهى جملته، نظرتُ إليه باشمئزازٍ وغضب. كيف له في موقفٍ كهذا، أن يفكر في هذا فقط! إنها سيكولوجية البشر، من الصعب أن تفهمها. لم أستطع المكوث أكثر، لذا نهضتُ من مكاني.
تقدمتُ ببطءٍ نحوه، وكأن قدميّ تثقلان مع كل خطوة، والدموع تحتشد في عيني، أحاول بكلِّ قوّتي أن أمنعها من الانحدار على وجنتي. رأيتُ رجلًا شاخصًا بصره إلى السماء، يحاول التحدث لكن صوته بالكاد يُسمع، وعيناه تحملان سؤالًا واحدًا: هل هذه النهاية؟ هل سأصبح من أهل اليمين أم من أهل الباطل؟
في تلك اللحظة، أدركتُ هشاشة الحياة. كيف يمكن لثانيةٍ واحدة أن تفصل بين وجود الإنسان واختفائه؟ كيف بعد صراعها مع الحياة في جمع الملذات، تفكر النفس في هذه اللحظة بمصيرها؟ كيف يمكن للحياة أن تمضي بلا اكتراثٍ، بينما شخصٌ ما يفقد كل شيء؟
وقف الناس لدقائق، يرددون عبارات المواساة، ويضربون كفوفهم ببعضها، ولكن بعد برهةٍ من الوقت، تذكّر كلٌّ منهم ما كان ذاهبًا إليه. عادت الابتسامة إلى وجوههم، ثم بدأت الحركة تعود تدريجيًا إلى الشارع. وصلت سيارات الإسعاف، حُمل الرجل، وعاد الشارع كما كان ضوضاء، وكأن شيئًا لم يكن.
لكنني كنتُ أعلم أن هناك شخصًا واحدًا على الأقل لن يعود إلى حياته كما كانت، وأن لحظةً واحدة قد تكون كافيةً ليصبح الزمن بلا معنى، مما يصعُب عليك فهمه.