Cover Image for دائرة مُغلقة
0
0

دائرة مُغلقة

وكعادة كل يوم، استيقظ أحمد من النوم للذهاب إلى العمل. قام بتجهيز نفسه، وذهب إلى والده، العم بكر، ليُلقي عليه تحية الصباح، ويُجهّز الفطور له ولنفسه. كان يومًا سعيدًا ككل يوم، تهامس فيه أحمد مع والده وضحكا كثيرًا، ضحكة تخرج من القلب، غير متكلّفة، دافئة.

فاجأه والده قائلًا:

"أشعر أن قدمي لم تذق الشارع منذ زمن… لنتمشى قليلًا، ما رأيك؟" وافق أحمد سريعًا، فلا شيء أحبّ إليه من تمضية الوقت مع أبيه.

سار الاثنان في الشارع يتحدثان كصديقين قديمين. كلما ضحك أحمد، كان يشعر بخفة في روحه، كأن العمر يعود للوراء. لكن عيون الناس كانت تلاحقهما، تتهامس، تلمز، تتابع حركاته بدهشة غير مبررة. لم يهتم أحمد، طالما والده إلى جانبه، فما الذي ينقصه؟ هذا الرجل الطيب، الذي احتواه بعد وفاة والدته، صار له كل شيء: البيت، والحنان، والحياة.

وبعد مسافة طويلة، وصلا أخيرًا إلى ورشة الميكانيكا التي يعمل فيها أحمد. ودّع أحمد والده بابتسامة، لكن نظرات صاحب الورشة لهما لم تكن طبيعية. قال بصوت خافت، وهو يراقب أحمد من بعيد:

"يا فتاح يا عليم… يا ستّار يا رب."

واصل أحمد عمله غير مبالٍ. غنّى بصوت منخفض إحدى الأغاني القديمة التي كان يسمعها من أبيه وهو طفل… كانت تُعينه على تجاوز الوقت، وتمنحه بعض السلوى.

مع نهاية اليوم، وأثناء طريق العودة، قابله عم علي وسأله:

"أين كنت يا أحمد؟ لم أرك منذ مدة."

ابتسم أحمد وقال ببساطة:

"العمل والبيت… ووالدي، لا يتركون لي وقتًا."

سكت عم علي، نظر له طويلًا كمن يريد قول شيء ثم تراجع. تمتم بصوت مضطرب:

"ربما... ربما تحتاج إلى بعض الراحة. ارجع واسترح يا بني."

شكره أحمد وانصرف، وعند سلّم البناية قابلته أم مريم، جارتهم، وقالت:

"لقد دفعت عنكم وصل الكهرباء."

رد سريعًا دون أن يتوقف:

"خذي حسابه من والدي."

شهقت المرأة:

"أنا كبيرة على ألعاب الأطفال يا أحمد! إن لم تدفع، سأقطع الكهرباء."

لم يرد. صعد إلى شقته، وجد والده يجلس على الأريكة يشاهد التلفاز. جلس بجانبه، وبدأ يحكي له ما جرى. استمع إليه الأب بهدوء، ثم قال بصوت رتيب:

"أنا الحريق الذي يضيء لك الطريق… تشجع يا بني، وارضَ بما هو مكتوب."

ساد صمت ثقيل، قُطع بصوت طرقات على الباب. فتح أحمد فوجد صديقه محمد كعادته. دخل وجلس بصمت. وبعد دقائق قال:

"أبي قال إنه رآك اليوم… وقلت له إنك منشغل بالعمل ووالدك."

أجاب أحمد ببساطة:

"نعم، ما المشكلة؟"

وضع محمد يده على يد أحمد وقال بلُطف:

"أحمد... والدك توفي منذ سنة. مات في الحريق… نسيت؟"

تجمّدت ملامحه. مرت ثوانٍ ثقيلة قبل أن تغزوه الذكرى فجأة: والده، والنار، ورائحة البلاستيك المحترق، والجسد المتفحم… ماس كهربائي أنهى كل شيء. سقط على الأرض، تكور على نفسه، وبدأ يصرخ كطفل تائه. كان يدفع محمد كلما اقترب منه، يصرخ، يبكي، ويهتز.

وبعد وقت طويل، هدأ، وأعانه محمد على الجلوس. بقي معه حتى اطمأن عليه، ثم غادر وهو يُتمتم بالدعاء.

في الليل، زحف أحمد إلى سريره. حاول جاهدًا أن يُغلق الأبواب في رأسه… لكنه لم ينجح. بكى طويلًا في صمت، حتى أنهكه التعب، ونام.

وفي صباح اليوم التالي… استيقظ أحمد من النوم للذهاب إلى العمل. قام بتجهيز نفسه، وذهب إلى والده، العم بكر، ليُلقي عليه تحية الصباح، ويُجهز الفطور له ولنفسه.

قم بإضافة تقييم

سجل الدخول لإضافة تقييم

تسجيل الدخول

التعليقات

لا يوجد تعليقات